المغفل الطائر !!

في عام 1919 عرض رجل أعمال من مدينة نيويورك جائزة قدرها خمسة وعشرون ألف دولار لمن يقطع الأجواء من نيويورك إلى باريس دون توقف. وفي مايو من عام 1927م أبدى الكابتن لندبرج استعداده ليربح الجائزة. وأقلع بالفعل من نيويورك على متن طائرة صغيرة بمحرك واحد تسمى " روح سانت لويس " . ولم يأخذ معه خارطة ولا مظلة هبوط. ولم يكن معه سوى خمس شطائر ومقدار ليترين من الماء تقريباً وقارباً صغيراً. وقد وصفه الصحفيون الذين كانوا يغطون الحدث بالمغفل الطائر. وبعد مضي ثلاث وثلاثين ساعة ونصف الساعة هبط لندبرج في مدينة قرب باريس بسلام ، وبعد عودته إلى أمريكا بعد ذلك بأسبوع وجد في انتظاره نصف مليون رسالة و75000 برقية وقام الموظفون بإلقاء 1800 طن من الأوراق الملونة على طول الشارع. لقد أصبح لندبرج بطل أمريكا الأول في القرن العشرين، وتم تغيير أسماء مئات الشوارع على اسمه، ولم يستطع لندبرج أن يبعث بملابسه إلى المغاسل لأن عمالها سيحتفظون بمها كتذكار ولن يعيدوها إليه ولم يكن يستطيع أن يحرر شيكات مصرفية لأن الناس كانوا لا يصرفوها بل يحتفظون بها كتوقيع من توقيعات المشاريع هذا وقد لبست بلاده ثوب الحداد من أقصاها إلى أقصاها بعد هذه الحادثة بخمس سنوات، حيث اختطف ابن لندبرج وقتل بطريقة بشعة، المصدر كتاب " Beneath the Surface ". قرأت هذه القصة منذ زمن ولم أكن أفكر في ترجمتها إلى العربية ولا حتى في روايتها لصديق أو زميل. ولكن الأحداث اليومية تدفع بنا إلى أن نسطر ما نراه أو نسمعه رغماً عن التسويف الذي نخدع به أنفسنا بين حين وحين بحجة ضيق الوقت والانشغال عن الكتابة. وقد يقول قائل : ليس في الأمر من جديد فهذه أخبار نسمعها باستمرار بل ونراها واضحة للعيان في التلفزيون وغيره وهناك ما هو أغرب من هذا. وهذا صحيح ولكن ما دفعني إلى سرد هذه القصة موقف معين. فقد كنت حاضراً أمسية شعرية في أحد النوادي الرياضية عندما قال الشاعر الشاب : هذه قصيدتي بعنوان " ليلى والليل " قال أحدهم ـ أي الحضور ـ وكان يجلس على مقربة مني : قصيدته ستكون " تخميساً " لقصيدة أخرى ... فتساءل شخص آخر عن معنى كلمة التخميس ولم يجد جواباً من أحد ، وهكذا مضت الأمسية بتعليقات ومزاح الحضور أكثر من إحيائها بإبداعات الشعراء الشباب. هذه الواقعة ذكرتني بحكاية تشارلز لندبرج وروحه الوثابة المتحدية فنظرت إلى الواقع ـ واقعنا نحن العرب ـ وهذا البرود الكبير الذي نحياه . وإذا كنا نفتقد روح المغامرة وحب الاستطلاع في الحياة والكون والمادة فإننا قد لا نأسى على ذلك ولكن أن نفتقد حب الاستطلاع داخل الكتب فذلك الخمول بعينه، لقد كانت تلك الجماعة التي تحدثت عنها معشر علم وشهادات ولن سلوكياتهم لم تكن ترقى إلى درجاتهم العلمية. لقد وصلوا إلى " القمة الباردة " وتوقفوا عند درجة معينة من المعرفة لا تزيد وقد تنقص. وهذا الخمول الذي يصيب طالب العلم قد ينسيه ما حصله من قبل إذا هو لم يواصل المطالعة والبحث في مجال تخصصه أو في أي فن آخر. وعلى التسليم بمقولة إن هذه العصر عصر السرعة والتحدي والحاسوب والفضاء والذرة و .. فقد أضحى لزاماً علينا أن ننطلق إلى آفاق أوسع وأرحب من آفاق المادة والاتكالية، لنكون على أهمية الاستعداد لكل جديد ، وويل للسكونيين في عالم متحرك وثاب. والآن .. أخي القارئ ما رأيك أتعتقد أنه كان مغفلاً طائراً ؟

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوادث المرور (نظرة أخرى)

إنارة العقول قبل إنارة الشوارع!

نقاط على الحروف ...