نأخذ ما ينفعنا
لا أخفي على القارئ الكريم مدى الجهد الذي بذلته حتى أجمع شتات هذا الموضوع، فهي قضية قديمة، موقف العرب من الغرب وتبعات ذلك كله حسناته وسيئاته في زمان تعاني فيه الأمة العربية والإسلامية آمال التقدم وآلام الخوف والجراح ... وكان السؤال الصعب : هل نتبعهم أن نتركهم ، أم نأخذ الصالح منهم وننبذ ما دون ذلك؟ وقد انتحى كل إلى رأي وارتضاه من هذه الآراء الثلاثة. وقبل عدة عقود كنا ـ نحن العرب ـ ننهض من بين الأنقاض لننفض غبار التخلف والأمية والضعف الذي خلفه لنا الاستعمار الغربي في جميع مجالات الحياة. وكانت محاولات التنوير التي قادها أعلام مخلصون من هذه الأمة هي بور للنقلة الحضارية التي نحياها الآن، ولا ننسى جهود الأفغاني والشيخ محمد عبده والشيخ البهلاني العماني في محاولة بث روح العلم والعمل في جسد هذه الأمة بعد أن مزقه الاستعمار الغربي. ولا ننسى أيضاً آخر كلمات الأمير شكيب أرسلان وهو على فراش الموت حيث قال : (( أوصيكم بفلسطين )) بعد حياة حافلة بالعمل والنشاط لصالح هذه الأمة وقد ضاعت فلسطين بعد وفاته بعام واحد !! وغير هؤلاء الأعلام قادة حركة التنوير كان هناك آخرون في مجالات مختلفة. وإشارة إلى تأثير الحضارة الإسلامية على الحضارة الأوروبية الحديثة يمكننا القول بأن الأخيرة قامت على مبادئ وأسس استمدتها من الحضارة الإسلامية نفسها حديث تمت ترجمة الكتب العربية في مجالات الطب والفلك والهندسة وغيرها من العلوم إلى اللغات الأوروبية وقام علماؤهم بانتحال هذه المؤلفات ونسبتها إلى أنفسهم ... كل ذلك والعالم العربي كان يئن تحت وطأة الاستعمار وما خلفه من أمية وجهل وضعف وأمراض. وكانت أوروبا في بداية عهدها ملتزمة بتعاليم الكنيسة لا تحيد عنها وذلك امتداداً للصبغة الدينية من العصور القديمة حيث كان يسطر الكهان على الأمور في الدولة .. بل وعلى الحاكم نفسه وكان أدباؤهم يعبرون عن ذلك الاتجاه في كتاباتهم ، يقول دانتي في كتابه " الكوميديا الإلهية " " رأيت في أورقة الجحيم بشراً، لا يحيون ولا يموتون " وفي هذا تأثر واضح بحادثة الإسراء والمعراج التي نؤمن بها نحن المسلمين. ومن عجيب القول أن نسبة كبيرة من أولياء أمور الطلاب في أمريكا الآن يعتقدون أن سبب فساد وانحراف أبنائهم هو المدرسة !! أجل فهذه إحدى المفارقات الغربية ، فإن تلك الثورة " الانحلالية " التي اجتاحت تلك الدولة الغربية، في عهد الستينات والسبعينات خبأ أولها مؤخراً وظهر الاعتقاد بأن المدارس في أمريكا لا تعطي أبنائها جرعة كافية من الدين ، كما أن الاختلاط أصبح أمراً غير مستحب، بل والأكثر من ذلك فإن عدداً كبيراً من الآباء هناك استطاعوا الحصول على اعتراف الدولة بما يسمى " بالتعليم المنزلي " حيث يغلق الأب الباب على أبنائه ويقوم بمهمة تعليمهم خوفاً من انحرافهم بالذوبان في المجتمع الخارجي ! وعلى سبيل المثال كان عدد الأطفال في ولاية " فرجينيا " الذين يتلقون التعليم المنزلي 1984م خمسمائة طفل، بينما ارتفع هذا العدد الآن إلى 7000 طفل. ألا يوحي ذلك كله إلينا بشيء !! بلى ، فالغرب بدأ يشعر بخطورة التسيب والحرية اللامحدودة ـ خصوصاً مع الشباب ـ ولعل هذه الأمور وغيرها بداية لعهد جديد من الاتجاهات الفكرية هناك. وإن كانت الحضارة الغربية قد بلغت شأوا بعيداً في التقدم العلمي والتقنية فإنها انحدرت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط الأخلاقي والتفكك الأسري.. بل وتفضيل الحيوان على الإنسان !! ذلك الانحطاط الذي تسبب في أنكى الجراح التي يعاني منها الأب والابن والأم والجار في مجتمع قوامه المادة وروحه الانطلاق اللامحدود في كل سيء ، مستلهمين من كتاب " الأمير " لصاحبه " ميكيافيللي " قدوة حسنة حيث قال في كتابه " إن الغاية تبرز الوسيلة " وهو من المبادئ الهدامة التي تعاني منها بعض المجتمعات العربية أيضاً. على أن الباحثين المنصفين الغربيين يعترفون بعظمة الحضارة الإسلامية وكأنهم يحسدوننا عليها. وكانت دراسة الحضارة الإسلامية من قبل بعض المستشرقين سبباً في دخولهم إلى الإسلام من أمثال الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي. يقول (( ج.هـ . دينسون )) في كتابه Emotions of the Bagis of Civilization . (( العواطف كأساس للحضارة )) (( ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدن على شفا جرف هار من الفوضى ، لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ، ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مفامها، وكان يبدو أن المدينة الكبرى التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة مشرفة على التهتك والانحلال ، وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية ، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام ، أما النظم التي خلفها المسحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بجلاً من الاتحاد والنظام، وكانت المدينة كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب .. وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل العالم جميعه )). وخلاصة القول فإن الخوف كل الخوف أن نندم على اتباع الحضارة الغربية شبراً بشبر وباعاً بباع فهذه الإرهاصات الفكرية الغربية الحديثة التي أخذت تنتقد الحضارة الغربية نفسها مؤشر خطير إلى بداية تحول في نهج ومسار أصحابها ، والواجب علينا الآن أن نحتاط للأمر ونتوقع كل غريب من الأحداث