لم نبدأ حتى الآن ... و تلك هي القضية !!
" ... و على من لم يبلغه النبأ أن يتفرس في عيون الناس في الشارع العربي. يقرأ أي صحيفة صباحية. يدير مؤشر المذياع مرورا بعواصم المشرق و المغرب. يتطلع إلى المرآة. يختلس نظرة إلى أعماقه. عندئذ، سيجدها كلمة منقوشة في كل العيون، مكتوبة بكل الأحرف، منطوقة بكل لهجات أمة العرب: الهزيمة !
مهزومون نحن و مشهور إفلاسنا في كل الأسواق وعلى كل الجبهات، رغم ما نزعمه من انتصارات هنا و هناك، و رغم ما نكدسه من أرصدة هنا و هناك، و رغم ما نملكه من ثروة مدفونة أو مكتشفة".
فهمي هويدي: القرآن و السلطان.
بنظرة سريعة إلى أحوال الأمة سنجد أن هذه الأحوال لم تتغير كثيرا منذ أكثر من مائة عام!! و عندما نقرأ ما كان يخطه جمال الدين الأفغاني أو ما خطه الذين أتوا من بعده سيتضح لنا أنها نفس "المعاناة"! هاهي الأمة التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار البغيض، و كانت تتجاذبها الأهواء و الأيديولوجيات الدخيلة التي ظن أصحابها – بقصد أو بجهل منهم – أنها المخلّص الذي طال انتظاره لينتشل الأمة من مستنقعات التخلف إلى عصر التقدم و التقنية ...هاهي الأمة ما زالت تتقدم إلى الوراء!! أمة عظيمة كانت سببا لهداية الأمم إلى طريق الحق والنور. أمة قدمت للعالم أروع الأمثلة في مختلف مجالات الحياة؛ الدينية و العلمية، حتى في فن التعامل مع البشر و الدواب و الشجر! نعم؛ نحن ما فتئنا نفتخر بأن الإنتاج العلمي للمسلمين هو الذي أسس للنهضة العلمية التي اجتاحت أوربا في عصر النهضة – الذي انطلق من إيطاليا أوائل القرن الرابع عشر الميلادي – و على الرغم من انتهائه في القرن السابع عشر الميلادي؛ إلا أن تأثيراته ما زالت قائمة و ها هي الأمم المتقدمة تسير بسرعة الضوء بينما نحن ما زلنا لم نبدأ حتى الآن!!
أمة العرب عالة على الأمم!
نُصدّر النفط و نستورد أعواد الثقاب!
والذي يُستغرب له هو حالة اليأس الذي وصل إليه المواطن العربي والذي أصبح معها لا يثق حتى في نفسه فضلا عن أن يثق في قرارات أو قوانين أو لوائح عقيمة! فمعظم القوانين التي تدار بها الحياة في أمة العرب قوانين لا تزيد المواطن إلا تخلفا؛ فمن نُظُم التعليم التي عفا عليها الزمن إلى قوانين الاقتصاد البالية، إلى وسائل الإعلام التائهة، إلى المعاملات التي ينبغي أن تمر على خمسة أو سبعة موظفين إلى ضغوطات الحياة بتكاليفها و فواتيرها التي تأتي أحيانا مزينة بعبارات التهديد: "ادفع، أو نقطع"!!
في وسط كل هذه "الهزائم" يجد المواطن العربي نفسه و قد طاف به الزمن و طوته الأيام دون أن يحقق حتى الحد الأدنى من حقوقه في حياة كريمة...
أنى له أن يسعى إلى علم أو معرفة و هو محارب بلقمة عيشه؟ كيف يكون له إبداع أو حتى محاولة للإبداع و هو مشغول بالجري وراء مصاريف الحياة و دفع الغرامات و تسديد الفواتير و الضرائب؟!
أسوق هنا أمثلة من كتاب "خواطر من اليابان" للأستاذ أحمد مازن الشقيري (طبعة 2009 ):
يتحدث المؤلف عن أحوال سائقي سيارات الأجرة في اليابان:
"... الياباني يشعر أنه سائق تاكسي محترم! راتبه يزيد عن 2000 دولار في الشهر، سيارته نظيفة، أغلب الناس يحترمونه، يشعر أن الدولة تعطيه حقه وتعامله معاملة إنسانية، ولا تتأخر الشركة عليه في دفع راتبه الشهري، و من ثَم تجد أن العمل بناءً على مبدأ الأمانة الذي لديه ميسر. أما سائق التاكسي في بعض بلادنا الإسلامية فهو مُهان محتقر و راتبه زهيد جدا لا يغطي تكاليف الحياة الأساسية، ويشعر أنه مظلوم و أن قيمته كإنسان مهددة، ومن ثَم تجده يتخلى عن مبدأ الأمانة؛ لأنه يرى أن المجتمع لم يكن أمينا معه ...".(ص. ص 15 – 16 ).
و يقول في موضع آخر: "هل تعلم أنه توجد مكتبة في اليابان للمكفوفين فيها 70000 كتاب بما فيها القرآن بلغة برايل للمكفوفين؟ -
هل تعلم أن نسبة السمنة 3% فقط، و أنك إذا مشيت في شوارع اليابان مدة أيام فقد لا تجد سمينا واحدا !! – هل تعلم أن مدير محطة قطار يابانية انتحر بسبب أن أحد القطارات في شركته تأخر لبضع دقائق عن الموعد فلم يحتمل الضغط عليه في الصحف و الأخبار."(ص 114 – 116 ).
القضية الكبرى في عالمنا العربي أننا لم نبدأ بشكل جدي حتى الآن، و أتصور أنه لو شرعنا في التغيير حالا لاحتاج الأمر منا عقودا من الزمن؛ فلا بد من إعادة البناء في كل الجوانب من التعليم إلى القوانين الاجتماعية إلى النُّـظم التي تحكم علاقات الأفراد ببعضهم، وذلك يتطلب تأسيسا صحيحا للتعليم أولا و تقييما مستمرا لأنظمته التي يجب أن تكون لها أهداف تستمر مع الفرد أطول فترة ممكنة من حياته.
إن أول ما خلق الله تعالى القلم، و أول كلمة نزلت من الرسالة الخالدة كانت كلمة "اقرأ" ...
لا بد أن نجعل من المدرسة بيئة جاذبة للطالب لا منفِّـرة له، لا بد من جعل التعليم عملية مستمرة للحياة؛ لما بعد المدرسة بحيث يخرج الطالب بعد اثنتي عشرة سنة بعلم و عمل و أخلاق ... فالتعليم هو الأساس...